سميرة

سميرة

وحده الرجل باستطاعته أن يحول أسعد يوم في حياة فتاة إلى أتعس أيامها، وأحياناً إلى آخر أيامها. ربما يحسدني البعض على نجاتي من الموت تلك الليلة، لكنهم لو علموا كيف قضيت السنوات العشرة الأخيرة لتمنوا لي الموت ألف مرة - تماماً كما تمنيته أنا كل صباح و مساء -.

لم تكن لي أية طموحات أو تطلعات فيمن سأتزوجه، فالفتيات اللاتي نشأن في ذلك الفقر المدقع - حتى وإن كن في مثل جمالي النادر - لسن سلعة رائجة في سوق الزواج. قبلت الزواج من أول شخص طلبني من أبي لكي أخفف قليلاً من أعباء الحياة الملقاة على كاهل والدي القعيد، و تم الزفاف بعد أن تدبرنا نفقاته بمعجزة.

على عكس معظم الفتيات، لم أشغل نفسي كثيرا بأية توقعات أو أحلام خاصة بيوم الزفاف، و لم أبذل مجهوداً لأتخيل ما سوف يحدث تلك الليلة عندما ينفرد بي زوجي - الذي لا أكاد أعرفه - للمرة الأولى. ومع ذلك فقد كان ما حدث مخالفاً لجميع روايات من حولي، فلم تكد تمض نصف ساعة أو أقل على دخولنا الحجرة حتى بدأ زوجي في ركلي، و ضربي، وسبي بأقذر الشتائم، ثم خرج طالباً إحضار كلاً من أبي وأخي على وجه السرعة.

استقبلهما كثور هائج صائحاً:" بنتكم المحروسة طلعت مرة! "
ثم ألقى بي في وجههما وسط ذهول الجميع. لم تفلح محاولاتهما لتهدئته، وأصر على أن أغادر بيت الزوجية معهما في ليلة زفافي بالملابس التي أرتديها، ثم أرسل قسيمة طلاقي صباح اليوم التالي.

للمرة الأولى شهد منزلنا البائس اجتماع كبار العائلة - الذين لا يعرف نصفهم اسمي، ولم يعلم نصفهم الآخر بوجودي علي قيد الحياة - لبحث الأمر وتدارك الفضيحة سواًء بإثبات براءتي أو التخلص من عاري. تعالت بعض الأصوات مطالبة بقتلي، بينما اقترح بعض المتعلمين عرضي على الطبيب. دافع أبي عني بانفعال كاد أن يقتله حتى تأزم الموقف ونشب شجار كاد أن يهدم جدران بيتنا المتآكلة، ثم اضطروا أخيراً للموافقة على عرضي على الطبيب.

اصطحبوا أشلائي الممزقة إلى طبيب الصحة الذي أكد لهم انني "صاغ سليم"، و أخرج لهم شهادة تثبت ذلك. توجه كبار العائلة بالشهادة إلى طليقي لمطالبته بردي إلى عصمته، أو الحصول على أغراضي وحقوقي كاملة. كان مازال هائجاً وكأنه قد عثر على كنز باكتشافه المذهل هذا، و لم يكن منه إلا أن مزق الشهادة في وجه أولئك الذين لم يحلم يوماً بمصافحة أحدهم قائلاً باستهزاء:
"وهي الحاجات دي محتاجة شهادة يا كبارات؟
بنتكم صاعت، اغسلوا عاركم بدال ما تدوروا تكتبوا شهايد."
ثم طردهم صائحاً:
"ملهاش عندي قشاية."

لم يكن الحكم الذي أصدروه علي بعد ذلك أخف كثيراً من القتل. ظللت حبيسة جدران بيتنا المشققة لسنوات لم أرَ خلالها الطريق سوى مرات معدودة بصحبة أمي أو بعض أقاربنا. كان محرماً علي الخروج من البيت حتى "يأتيني عدلي" الذي لم يأت أبداً، فمن ذا الذي يقبل علي نفسه الزواج من امرأة طلقت بفضيحة؟ و أية فضيحة! لو علمت ذلك منذ البداية لما ترددت لحظة في الاستمتاع بجميع لذات الحياة التي حرمت نفسي منها لسنوات طويلة لأحافظ على شرفي الذي سلب مني في ليلة واحدة.

مرت الأعوام علي ثقيلة محملة بالهموم وقد حكم علي أن أظل عذراء إلى الأبد. توقفت عن إحصاء الأيام والسنوات، حتى نسيت في أي يوم نحن، وفي أي عام. حتي ذلك اليوم الذي اضطرت أمي أخيراً إلى اتخاذ قرارها الصعب بفك حصاري لتسمح لي أخيراً بالخروج للعمل. كان أقصى عمل استطعت الحصول عليه بشهادتي المتواضعة وخبرتي المنعدمة هو بائعة في محل خردوات.

حاولت كثيراً التصدي لنظرات الذئاب من حولي. كنت أحاول دومًا كبت جماحي والتفكير في أكل عيشي. مرت شهور طويلة بدأت بعدها مقاومتي في الانهيار، و قبلت أخيراً مواعدة ذلك الشاب الوسيم الذي اعتاد التردد علي محل الخردوات فقط ليحظى بنظرة مني. كان واضحًا بما يكفي منذ اليوم الأول، قال أنه يحبني بشدة لكنه لن يستطيع الزواج بي، و كنت أنا أكثر وضوحاً وقررت أن أقبل صداقته بشرط ألا يمسني. لا ادري حقاً لماذا وضعت ذلك الشرط القاسي، فما الذي سأخسره لو حصل عليَّ كل رجال الأرض؟ ماذا تبقي لدي لأحافظ عليه سوى العار؟

استمرت صداقتنا بعيداً عن الناس لشهور طويلة. لكن القدر الذي طالما أصر علي ملاحقتي لم يشأ أن تمر تلك الصداقة دون فضيحة. رآني أحد أبناء عمومتي أمشي مع ذلك الشاب في حديقة عامة، لا نفعل شيئاً سوى التحدث في أمور الحياة. لكن من يصدق أن مطلقة ملوثة مثلي سوف تتحدث فقط في شئون الحياة؟
وللمرة الثانية اجتمع مجلس كبار العائلة من أجلي، وتعالت الأصوات تطالب بقتلي. لم يكن هناك من يدافع عني تلك المرة، ولم أملك أنا حق الدفاع عن نفسي - فماذا سأقول و قد ضبطت متلبسة مع عشيقي في حديقة عامة أمام الناس؟ -
اتخذوا قراراً بالقتل بعد مداولات، وعلقوا القرار في انتظار رد كبير العائلة. كنت أجلس في حجرتي متكورة على سريري، بينما جلست أمي في ركن الحجرة الرطبة تسكب ما تبقى لها من دموع. أصواتهم البعيدة كانت تخترقني بوضوح. سمعت القرار فور صدوره.

تري كيف سيفعلونها؟
تقوم بعض العائلات بدفن الفتاة حية في منطقة بعيدة بالخلاء، عائلات أخرى تنهي الموضوع سريعاً بتسديد طعنات نافذة إلى القلب.

أخيراً أتى كبير العائلة الذي كان - لحسن حظى أو لسوئه - متعلماً مثقفاً. حارب الرجل من أجلي وأصدر أخيراً فرمانه:" معندناش قتل "
شعرت برغبة عارمة في أن أجثو عند قدميه وأن أقبل يديه، ليس تعبيراً عن عرفاني بجميله ولكن لأتوسل إليه أن يتركهم يقتلونني تلك المرة.

x
تنويه القصص الموجودة على هذا الموقع قد تسبب للبعض شعور بعدم الارتياح أو الألم. في حالة شعورك بذلك، تذكر أن تتنفس، وأن تأخذ بعض الوقت مع ذاتك قبل مواصلة القراءة، أو بالتوقف عن القراءة إذا استدعى الأمر